يسهم في تشكيل الوعي للمجتمعات
الدكتور خالد أبو الليل: الأدب الشعبي ليس مجرد تخصص علمي بل هو جزء من هويتنا
هناك عادات وطقوس لو أقيمت في غير وقتها ستفقد رونقها مثل الأعياد وشهر رمضان
السرد الشفهي هو وسيلة لنقل القيم من خلال التجليات المتعددة مثل الحكاية والسيرة
الأسطورة لا تموت بل تتحول مع تغيّر الزمان والعقل الجمعي
السيرة الهلالية تمثل ذروة المزج بين التاريخ والأسطورة
حوار : ريم محمد – رحمه كامل نورهان أسامة – مؤمن أسامة
التراث الشعبي ليس مجرد حكايات تروى أو أمثال تتناقلها الأجيال، بل هو روح الأمة وهويتها العميقة التي تعكس تجاربها وثقافتها عبر الزمن، وفي قلب هذا المجال، يبرز اسم الأستاذ والدكتور خالد أبو الليل، الباحث الذي جعل من دراسة الأدب الشعبي نافذة لفهم المجتمع وتحولاته. على مدار سنوات،
انشغل الدكتور خالد بتوثيق وتحليل الموروث الشعبي، مستكشفًا أسراره ودلالاته العميقة، مجيبًا عن أسئلة جوهرية: كيف تعكس الحكايات الشعبية وجدان الشعوب؟ وما دورها في تشكيل الوعي الجمعي؟ وكيف يمكن حمايتها في عصر التكنولوجيا المتسارعة؟ في هذا الحوار، نفتح معه صفحات من التراث، ونبحر في عالم الحكايات والأمثال لنفهم كيف يروي الماضي قصته للحاضر، وما الذي يجب علينا فعله لنضمن استمراريته للأجيال القادمة. وكان لمجلة «وتد» هذا اللقاء مع الدكتور خالد أبو الليل.
إلى نص الحوار:
– ما الذي دفعك لاختيار الأدب الشعبي مجالًا لدراستك وبحثك؟
–الأدب الشعبي هو جزء من هويتنا قبل أن يكون تخصصًا علميًا. إنه مجال موجود في الحياة، وهو جزء من المأثور الشعبي أو التراث الشعبي. فهو نمط حياة يتشعب في الأدب، ويتواجد في الأمثال والنكات والحكايات والسير والأغاني والموّال والتعبيرات الشعبية. هذا على مستوى الأقوال الشعبية وعلى مستوى العادات والتقاليد وأعياد المصريين الإسلامية والمسيحية وجميع المناسبات الدينية المختلفة، إذًا، التراث الشعبي يصاحب الإنسان منذ قبل ولادته، إذ خلال فترة الحمل تكون المرأة مرتبطة بعادات وتقاليد في أسلوب التربية، ويستمر طوال حياته وحتى موته، وهذه العادات والتقاليد والمعتقدات الشعبية لا تنتهي، فالأدب الشعبي هو جزء من كينونتي وروحي، ليس فقط تخصصًا علميًا.
– هل الأدب الشعبي له وجود؟
— هناك عدة خصائص تميز الأدب الشعبي، ومنها فكرة الانتشار والتداول، ما يميز الأدب الشعبي عن غيره هو الحضور والتداول والانتشار. يتم الاهتمام بالنص أكثر من معرفة من قاله، لأن النص يعبّر عن قيمة معينة، مثال على ذلك، الأمثال الشعبية.. فنحن لا نعرف من قالها، لذلك نقول «على رأي المثل»، أما المرونة، فالنص الشعبي مرن بمعنى أنه يمكن أن يوجد نصوص قديمة تعود لآلاف السنين مع بعض الإضافات أو الحذف، حسب تغير الزمن. تكمن أهمية الأدب الشعبي في مرونته، لأن هذا يجعل الأدب الشعبي مستمرًا ومتواجدًا طوال الوقت، ليس شرطًا أن يكون بقايا زمن مضى؛ لو لم يكن يعزز قيمة أو يؤدي وظيفة، كان سيفقد قيمته واندثر، في هذا السياق، اكتسب الأدب الشعبي مرونة ليظل مستمرًا. هناك أيضًا اختلاف بين الأدب الشعبي التقليدي والأدب الشعبي الإلكتروني، مثل النكت التي تحولت إلى كومكس، لكنها تختلف عن نكت الزمن الماضي لأنها كانت تُقال في تجمعات اجتماعية.
– ما هي أهمية الأدب الشعبي في الحفاظ على الهوية الثقافية؟
— الأدب الشعبي يعزز هويتنا، مثل الأمثال والعادات والتقاليد، سأخذ مثالين في منتهى الأهمية: (شهر رمضان) وما هو إلا هوية دينية واجتماعية. على رأي من قال «لكل وقت أذان»، هناك عادات وتقاليد وطقوس لا تقام إلا في أوانها. لو أقيمت في غير وقتها، ستفقد رونقها، مثل الأعياد وشهر رمضان، هذه هي هويتنا، وعندما نذكر هذه الطقوس والأعياد، يأتينا حنين للماضي. هناك صراع على الهويات؛ لأن هناك دولًا ليس لديها ماضٍ (هوية) لتتفاخر به، مثل (إسرائيل)، التي عندما جاء شعبها يتحد ليشكل كيانًا، لم يكن لديهم هوية متجذرة، فأخذوا عادات وتقاليد مكتسبة من دول أخرى. لذلك، هي أول كيان صنع أرشيفًا للفلكلور ليثبت أنه ليس كيانًا وليدًا، بل موجود منذ آلاف السنين. هذا يُرسخ في أذهان الأجيال الحديثة أنه كان لهم تراث، بينما في الحقيقة قاموا بسرقة هويتنا التي نحن من فرطنا فيها بسبب عدم الاهتمام بها.
– ما علاقة الأدب الشعبي بالفلكلور؟
— الفلكلور هو مصطلح إنجليزي، وأول من استخدمه كان «ويليام جونتونس» في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، ولكن الفلكلور كمادة شعبية موجود منذ أن وُجد الإنسان، العلم الذي يُعنى به الفلكلور يحتوي على أربع أو خمس أقسام وفقًا لاختلاف العلماء، فبعضهم يرى أن الفلكلور يشمل الأدب الشعبي، والعادات والتقاليد، والمعتقدات، والمعارف، والثقافة المادية، بينما يرى البعض الآخر ضرورة إضافة الفنون الشعبية.. إذًا، الأدب الشعبي هو أحد أقسام الفلكلور.
— كيف يعكس الأدب الشعبي القيم والتقاليد المجتمعية؟
–من خلال الحكايات والنكت والأمثال الشعبية والسير الشعبية. كل نقطة تغطي مرحلة من مراحل التربية لدى الإنسان… على سبيل المثال، «فن الحدوتة» يغطّي مرحلة الطفولة، حيث يتشرب الطفل منها القيم الموجودة في بطل الحكاية، مثل الشجاعة والمروءة. وهنا تكمن الوظيفة الأساسية للأدب الشعبي، وهي المحاكاة؛ فعندما يرى الطفل أن بطل الحكاية دائمًا ينتصر لأنه يفعل الخير، يتعلم منه القيم، كما نقول في المثل: «اعمل الخير وارميه في البحر»، على الرغم من أن الأبطال في الحكايات قابلوا مشاكل وواجهوا أناسًا سيئين، إلا أنهم فعلوا الخير مثل «الشاطر حسن» و»ست الحسن والجمال»، أهم الصفات التي تميزهم هي الإرادة والتحدي والعزيمة والصبر والأمل.
– كيفية استخدام السرد الشفهي في نقل الأدب الشعبي؟
–السرد الشفهي يتخذ أشكالًا عديدة مثل الحواديت، السير، الأمثال، والنكت.. وهو وسيلة لنقل القيم من خلال التجليات المتعددة مثل الحكاية والسيرة.
– كيف تعرّف الأسطورة؟ وهل صحيح أنها مجرد حكاية خيالية؟
— على العكس تمامًا. الأسطورة ليست مجرد حكاية كما يظن البعض، بل كانت يومًا ما “دين الأولين” – أي عقيدة وإيمانًا حقيقيًا لدى الشعوب الأولى. فقد كانت جزءًا أصيلًا من الفلكلور الشعبي، ومتداخلة مع الأدب والعلم والدين، إلى أن استقلت تدريجيًا لتشكّل حقلًا معرفيًا قائمًا بذاته.
– لماذا لجأ الإنسان القديم إلى الأسطورة لتفسير العالم من حوله؟
— لأن الإنسان الأول واجه ظواهر كونية لم يكن يجد لها تفسيرًا، في ظل غياب الدين والعلم. حينها، لجأ إلى الأسطورة كوسيلة للإجابة عن أسئلته الكبرى. مثلًا، عندما لاحظ تعاقب الليل والنهار، لم تكن هناك نظرية فيزيائية أو دينية تفسّر ذلك، فابتدع حكاية تقول إن القمر كان متزوجًا من الشمس، ثم انفصلا بسبب خلاف على الأبناء، ومن هنا صار القمر يظهر ليلًا مع أطفاله (النجوم)، بينما تظهر الشمس وحدها نهارًا. كانت هذه الإجابة مقنعة ومقدسة في زمانها.
– هل يمكن اعتبار مثل هذه التفسيرات ضربًا من الخيال الساذج؟
— قد تبدو كذلك من منظورنا الحديث، لكنها في زمانها كانت عقائد حقيقية. خذ مثلًا تفسير الزلزال، حيث كان يُقال إن “الدنيا محمولة على قرن ثور، وعندما يتعب الثور ويغيّر اتجاه رأسه تحدث الهزة”. تفسيرات بسيطة، لكنها كانت وسيلة لفهم العالم قبل ظهور العلم الحديث.
– لكن… هل ما زالت الأسطورة قائمة في عصرنا الحالي؟
— بالتأكيد. فالأسطورة لا تموت، بل تتحول. كلما ظهرت ظواهر غير مفسّرة أو أحداث خارقة، يعود العقل الشعبي لاختراع أسطورة تفسّرها. تنتقل من المقدّس إلى المدنّس، من السماء إلى الأرض، من الإيمان إلى السخرية. هذا التحول هو ما يمنحها الحيوية والاستمرار.
– كثير من الناس يخلطون بين الأسطورة والحكاية الشعبية. ما الفرق بينهما؟
— هذا خلط شائع، ومن أبرز الأمثلة على ذلك شخصية “أبو رجل مسلوخة”. هي ليست أسطورة، بل حكاية شعبية هدفها تخويف الأطفال. الأدب الشعبي لا يعني الرعب فقط، بل يحمل في طياته قيمًا تربوية وأخلاقية.
– هل يمكن أن تذكر لنا مثالًا على هذه القيم في الحكايات الشعبية؟
— طبعًا. انظر إلى حكاية “ست الحسن والجمال”، التي تُرسل إلى البئر بأمر من زوجة أبيها، حيث تتوقع أن تلتهمها “أمنا الغولة”. لكن المفاجأة أن الغولة تعاملها بلطف، وتكافئها بالحلي والغوايش. وتقول لها: “لولا سلامك سبق كلامك، لكلت لحمك قبل عضماك”. هذه الحكاية تعلم الأطفال كيف يتعاملون مع الآخر المختلف، وتكرّس قيم الذكاء والشجاعة والاحترام.
– من الذي ينتصر في هذه الحكايات؟
— دائمًا ما ينتصر الخير، سواء كان “الشاطر حسن” أو “ست الحسن والجمال”. أما الشخصيات الشريرة مثل “أمنا الغولة” أو “أبو رجل مسلوخة” فهي أدوات سردية لتأطير الصراع، ولتوصيل الرسائل التربوية بطريقة مشوّقة.
– كيف تنظر إلى السيرة الهلالية في هذا السياق؟ هل هي حكاية شعبية أيضًا؟
— السيرة الهلالية تتجاوز كونها حكاية شعبية. هي ملحمة تمثل ذروة المزج بين الأسطورة والتاريخ، وتحمل بعدًا قوميًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا. إنها محفوظة في الذاكرة الشعبية وتُروى شفهيًا من جيل إلى جيل، وتحمل سمات البطولة والأسطرة معًا.
– في ظل هذا التراث الغني، كيف يمكننا الحفاظ عليه؟
— على الشباب أن يدركوا أهمية توثيق هذا الأدب الشعبي. أدعوهم لجعل مشاريع تخرجهم في هذا الاتجاه، لأن هذا التراث كنز معرض للاندثار. نحتاج إلى جهد حقيقي للحفاظ عليه. كل حكاية تحمل قيمة، وكل أسطورة كانت في زمنها إجابة صادقة عن تساؤلات الإنسان. لا نحفظها للضحك، بل لنفهم كيف كان يفكر الإنسان، كيف تطور عقله، وكيف نحافظ على هويتنا الثقافية.